الحسين(ع) منارة الحق
يقول المستشرق الألماني كارل بروكلمان في كتابه تاريخ الشعوب الإسلامية "الحق أن ميتة الشهداء التي ماتها الحسين
بن علي قد عجلت في التطور الديني لحزب علي، وجعلت من ضريح الحسين في كربلاء أقدس محجة"،
ليس بروكلمان المفكر الوحيد الذي استثارته ملحمة كربلاء بكل ما تحمله من مواقف ومعان نبيلة، سطرت على
مر العصور ترجمة واقعية لرفض الظلم بشتى أشكاله القمعية وبتمثيل منقطع النظير، ولا جدل في
هذا لأنها واقعة تجسيد لإرادة الله العادلة في الأرض.
يمكن الجزم بأن ملحمة الطف لا تزال تملك تلك القوة الملهبة الملهمة لأرواح المستضعفين ممن قرؤوها في
سياقها السليم واستشعروا فيها الرفض الحقيقي لكل نظم الظلم والاستعباد بشقيه المعنوي والجسدي، واستخلصوا
من نهج بطلها سيد الشهداء الحسين بن علي الوقوف مع الحق في كل زمان ومكان وفي أحلك الظروف لم يستطع
يزيد الطاغية أن يشوه نسج الإسلام المستقيم وأن يخلد نهجه الفاسد من خلال تجاوز رفض الحسين المستمر لكل
عروضه التي تأخذ في اتجاه واحد مغزاه تثبيت الولاية المطلقة للحاكم ولو كان ظالماً فاسقاً وتأتي الطاعة القسرية
تباعاً نتيجة لكونه شرطاً أساسياً لإرسائه كنظام، ولكن صمود أبي الأحرار أمام المحاولات الملتوية لتثبيت البيعة حتى
الاستشهاد صاغ نموذجاً مثالياً في ترسيخ ديمقراطية الرأي وأعطى درساً سامياً في ترسيخ حقوق
المخلوق التي كرمها به الخالق عز وجل.
لم تكن مظلومية الإمام الحسين مثالاً للاستكانة والانصياع قط، بل على العكس تماماً كانت ولا زالت صرخة الحق
العليا في وجه الباطل حتى وفي غياب توازن القوى، لم تذهب التضحيات اللامحدودة التي قدمها هذا الإمام
الخالد بكل أولاده وأتباعه ونسائه ونفسه الشريفة زبداً جفاءاً، بل يمكن القول أنها كانت بمختلف أنماطها وصورها
سبلاً لتنمية الوعي الإنساني والرقي بأفقه الفكري نحو منهج يرفض الاستعباد والذل لأي بشر كان،
ويرفض أي سقف يحد كرامة الإنسان وحريته.
لم يشكل الموت جداراً حاجزاً في وجه مشروع الحق الذي أسس له الحسين بن علي، بل إنه قال مخاطباً أصحابه
في يوم العاشر من محرم بعد أن حاصره زبانية يزيد الفاسق "صَبْراً بَنِي الْكِرَامِ! فَمَا الْمَوتُ إلا قَنْطَرَةٌ تَعْبُر بِكُمْ عَنِ
الْبُؤسِ وَالضَّرّاءِ إلي الْجِنَانِ الْوَاسِعَةِ وَالنَّعِيمِ الدَّائِمَةِ. فَأَيُّكُمْ يَكْرَهُ أَن يَنْتَقِلَ مِنْ سِجْنٍ القَصْرٍ؟ وَ مَا هُوَ لأعدائكم
إلا كَمَنْ يَنْتَقِلُ مِنْ قَصْرٍ السِجْنٍ وَعَذَابٍ"، نستشعر من هذه الروح العظيمة النظرة الدونية للدنيا وما تحمله من أهواء
وبريق كله إلى زوال، وإننا لن نجني في مستقرنا إلا ما زرعناه في ممرنا.
إن لكربلاء نصيباً وافراً في تشذيب الفكر الإنساني والنهوض به نحو مجتمع يرفض القسر السادي الذي تجسد في
يزيد وزبانيته، و لقد كان من أسمى وأنبل القيم التي صيغت من خلالها هو الانتهاج بمدرسة الوعي في مواجهة
مدرسة الجهل، ولنا نحن المسلمين كافة أن نحمل قيمها في رسالة الحسين من أجل الحق وتفعيلها في مضمارها
المستقيم، التي استشهد بعنوانها مصباح الهدى وسفينة النجاة، ليست قضية الإمام الحسين قضية محدودة وخاصة،
بل هي أرحب مما يكون لتحمل هم كل مظلوم ومستضعف على وجه الأرض، وترفع كل راية من أجل الحرية،
وتحارب كل صور التبعية لسلطة لا تكفل مجتمع الحق والحرية والعدل .
سماحة العلامة الشيخ محمد علي المحفوظ