من
خطبة له (عليه السلام) في
بيان قدرة اللّه
وانفراده بالعظمة وأمر
البعث كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ وكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ وعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ وقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ ومَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ ومَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ ومَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ ومَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ ولا اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ ولا يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ ولا يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ ولا يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ ولا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ ولا يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ ولا يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلانِيَةٌ وكُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ أَنْتَ الأبَدُ فَلا أَمَدَ لَكَ وأَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلا مَحِيصَ عَنْكَ وأَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلا مَنْجَى مِنْكَ إِلا إِلَيْكَ بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ وإِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ ومَا أَصْغَرَ كُلَّ عَظِيمَةٍ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ ومَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ ومَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ ومَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا ومَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الآخِرَةِ.
و منهامِنْ مَلائِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ ورَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ وأَخْوَفُهُمْ لَكَ وأَقْرَبُهُمْ مِنْكَ لَمْ يَسْكُنُوا الأصْلابَ ولَمْ يُضَمَّنُوا الأرْحَامَ ولَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ولَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ الْمَنُونِ وإِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ ومَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ واسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ وكَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ وقِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ ولَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ولَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ ولَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ.
سُبْحَانَكَ خَالِقاً ومَعْبُوداً بِحُسْنِ بَلائِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً وجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً مَشْرَباً ومَطْعَماً وأَزْوَاجاً وخَدَماً وقُصُوراً وأَنْهَاراً وزُرُوعاً وثِمَاراً ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا فَلا الدَّاعِيَ أَجَابُوا ولا فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا ولا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا واصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا ومَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ وأَمْرَضَ قَلْبَهُ فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ ويَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ وأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ ووَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا ولِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا وحَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا لا يَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ ولا يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ وهُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ حَيْثُ لا إِقَالَةَ ولا رَجْعَةَ كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ وجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ وقَدِمُوا مِنَ الآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وحَسْرَةُ الْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ وتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وبَيْنَ مَنْطِقِهِ وإِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ ويَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وبَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَهُ وفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ ويَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا وأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا ومُشْتَبِهَاتِهَا قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا وأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا ويَتَمَتَّعُونَ بِهَا فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ والْعِبْءُ عَلَى ظَهْرِهِ والْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ ويَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ ويَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا ويَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ ولا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ ولا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلامِهِمْ ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ وخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ وتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ لا يُسْعِدُ بَاكِياً ولا يُجِيبُ دَاعِياً ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الأرْضِ فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ وانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ.
حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ والأمْرُ مَقَادِيرَهُ وأُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ وجَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ أَمَادَ السَّمَاءَ وفَطَرَهَا وأَرَجَّ الأرْضَ وأَرْجَفَهَا وقَلَعَ جِبَالَهَا ونَسَفَهَا ودَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلالَتِهِ ومَخُوفِ سَطْوَتِهِ وأَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلاقِهِمْ وجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايَا الأعْمَالِ وخَبَايَا الأفْعَالِ وجَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ أَنْعَمَ عَلَى هَؤُلاءِ وانْتَقَمَ مِنْ هَؤُلاءِ فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ وخَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ حَيْثُ لا يَظْعَنُ النُّزَّالُ ولا تَتَغَيَّرُ بِهِمُ الْحَالُ ولا تَنُوبُهُمُ الأفْزَاعُ ولا تَنَالُهُمُ الأسْقَامُ ولا تَعْرِضُ لَهُمُ الأخْطَارُ ولا تُشْخِصُهُمُ الأسْفَارُ وأَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ وغَلَّ الأيْدِيَ إِلَى الأعْنَاقِ وقَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالأقْدَامِ وأَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ ومُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ وبَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ ولَجَبٌ ولَهَبٌ سَاطِعٌ وقَصِيفٌ هَائِلٌ لا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا ولا يُفَادَى أَسِيرُهَا ولا تُفْصَمُ كُبُولُهَا لا مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى ولا أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى.
((نهج البلاغة ))