دلّت الآيات القرآنية على أنَّ الهداية والضلالة بيده سبحانه، فهويضل من يشاء ويهدي من يشاء. فإذا كان أمر الهداية مرتبطاً بمشيئته، فلا يكون للعبد دور لا في الهداية ولا في الضلالة، فالضال يعصي بلا اختيار، والمهتدي يطيع كذلك وهذا بالجبر، أشبه منه بالإِختيار.
قال سبحانه: ﴿وما أَرْسَلْنا من رَسول إلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَالعَزيزُ الحَكِيمُ﴾(إبراهيم:4).
وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(النحل:93).
وقال سبحانه: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾(فاطر:
.
إلى غير ذلك من الآيات المخصصة للهداية والإِضلال باللّه تعالى.
أَمَّا الجواب: فإن تحليل أمر الهداية والضلالة الذي ورد في القرآن الكريم من المسائل الدقيقة المتشعبة الأبحاث ولا يقف على المحصل من الآيات إلاَّ من فسّرها عن طريق التفسير الموضوعي، بمعنى جمع كل ما ورد في هذين المجالين في مقام واحد، ثم تفسير المجموع باتخاذ البعض قرينة على البعض الآخر.
حقيقة الجواب تتضح في التفريق بين الهداية العامة التي عليها تبتنى مسألة الجبر والإِختيار، والهداية الخاصة التي لا تمت إلى هذه المسألة بصلة.
الهداية العامّة
الهداية العامة من اللّه سبحانه تعمّ كل الموجودات عاقلها وغير عاقلها، وهي على قسمين:
أ- الهداية العامة التكوينية: والمراد منها خلق كل شيء وتجهيزه بما يهديه إلى الغاية التي خلق لها: قال سبحانه حاكياً كلام النبي موسى عليه السَّلام: ﴿رَبُّنا الذي أعْطَى كُلَّ شيء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾(طه:50). وجهّز كل موجود بجهاز يوصله إلى الكمال، فالنبات مجهز بأدقّ الأجهزة التي توصله في ظروف خاصة إلى تفتح طاقاته فالحبّة المستورة تحت الأرض ترعاها أجهزة داخلية وعوامل خارجية كالماء والنور إلى أن تصير شجرة مثمرة مِعطَاءة. ومثله الحيوان والإنسان، فهذه الهداية عامة لجميع الأشياء ليس فيها تبعيض وتمييز.
قال سبحانه: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى *الذي خَلَقَ فَسَوَّى *والذي قَدَّرَ فَهَدى﴾(الأعلى:1-3).
وقال سبحانه: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ *ولِساناً وَشَفَتَيْنِ *وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ﴾(البلد:8-10).
وقال سبحانه: ﴿وَنَفْس وَمَا سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْوايها﴾(الشمس:7-
.
إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول الهداية التكوينية التي ترجع حقيقتها إلى الهداية النابعة من حاق ذات الشيء بما أودع اللّه فيه من الأجهزة والإِلهامات التي توصله إلى الغاية المنشودة والطريق المَهْيع، من غير فرق بين المؤمن والكافر.قال سبحانه: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّه التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه ذَلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلِكنّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾(الروم:30).
فهذا الفيض الإلهي الذي يأخذ بيد كل ممكن في النظام، عام لا يختص بموجود دون موجود، غير أن كيفية الهداية والأجهزة الهادية لكل موجود تختلف حسب اختلاف درجات وجوده.وقد أسماه سبحانه في بعض الموجودات "الوحي"وقال: ﴿وَأَوْحى رَبُّكَ إلى النَّحلِ أَنِ اتَّخَذِي مِن الجِبالِ بُيوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلي مِنْ كُلّ الثَمَراتِ فَاسْلُكي سُبُلَ رَبِّكَ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إنَّ في ذَلِكَ لاَيةً لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ﴾(النحل:68-69).
ومن الهداية التكوينية في الإِنسان العقل الموهوب له، المرشد له إلى معالم الخير والصلاح، وما ورد في الذكر الحكيم من الآيات الحاثَّة على التعقل والتفكر والتدبر خير دليل على وجود هذه الهداية العامة في أفراد الإِنسان وإن كان قسم منه لا يستضيء بنور العقل ولا يهتدي بالتّفكّر والتّدبّر.
ب- الهداية العامّة التّشريعية: إذا كانت الهداية التكوينية العامة أمراً نابعاً من ذات الشيء بما أودع اللّه فيه من أجهزة تسوقه إلى الخير والكمال، فالهداية التشريعية العامة عبارة عن الهداية الشاملة للموجود العاقل المدرك، المفاضة عليه بتوسط عوامل خارجة عن ذاته، وذلك كالأنبياء والرسل والكتب السماوية وأوصياء الرسل وخلفائهم والعلماء والمصلحين وغير ذلك من أدوات الهداية التشريعية العامة التي تعمّ جميع المكلفين.قال سبحانه: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّة إِلاَّ خَلاَ فِيها نَذِيرٌ﴾(فاطر:24).
وقال سبحانه: ﴿لَقَد أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيَّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ﴾(الحديد:25).
وقال سبحانه:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾(النساء:59).
وقال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالا نُوحي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾(الأنبياء:7).وأهل الذكر في المجتمع اليهودي هم الأحبار، والمجتمع المسيحي هم الرُهْبان.
إلى غير ذلك من الآيات الواردة في القرآن الكريم التي تشير إلى أنَّه سبحانه هدى الإِنسان ببعث الرسل، وإنزال الكتب، ودعوته إلى إطاعة أُولي الأمر والرجوع إلى أهل الذكر.
قال سبحانه مصرّحاً بأنَّ النبي الأكرم صلى الله عليه واله وسلم هوالهادي لجميع أُمته: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدي إِلى صِراط مُسْتَقِيم﴾(الشورى:52).
وقال سبحانه في هداية القرآن إلى الطريق الأقوم: ﴿إِنَّ هَذا القُرآنَ يَهْدِي للّتي هي أَقْوَمُ﴾(الإِسراء:9)
هذا، وإن مقتضى الحِكْمَة الإِلهية أن يعمّ هذا القسم من الهداية العامة جميع البشر، ولا يختص بجيل دون جيل ولا طائفة دون طائفة.
والهداية العامة بكلا قسميها في مورد الإِنسان، ملاك الجبر والإِختيار فلوعمّت هدايته التكوينية والتشريعية في خصوص الإِنسان كل فرد منه، لارتفع الجبر، وساد الإِختيار، لأنَّ لكل إنسان أن يهتدي بعقله وما حَفَّهُ سبحانه به من عوامل الهِدايَة من الأنبياء والرسل والمزامير والكتب وغير ذلك.
ولوكانت الهدايَة المذكورة خاصة بأُناس دون آخرين، وأنَّه سبحانه هدى أُمة ولم يهدِ أُخرى، لكان لتوهم الجبر مجال وهووَهْم واه، كيف وقد قال سبحانه: ﴿وَما كُنَّا مُعَذّبينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾(الإِسراء:15)وقال سبحانه: ﴿وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّها رَسُولا﴾(القصص:59). وغير ذلك من الآيات التي تدلّ على أنَّ نزول العذاب كان بعد بعث الرسول وشمول الهداية العامّة للمُعَذبين والهالكين، وبالتالي يدلّ على أنَّ من لم تبلغه تلك الهداية لا يكون مسؤولا إلاّ بمقدار ما يدلّ عليه عقله ويرشده إليه لبّه.
الهداية الخاصّة
وهناك هداية خاصة تختص بجملة من الأفراد الذين استضاؤوا بنور الهداية العامة تكوينها وتشريعها، فيقعون مورداً للعناية الخاصة منه سبحانه. ومعنى هذه الهداية هوتسديدهم في مزالق الحياة إلى سبل النجاة، وتوفيقهم للتزود بصالح الأعمال، ويكون معنى الإِضلال في هذه المرحلة هومنعهم من هذه المواهب، وخذلانهم في الحياة، ويدلّ على ذلك (أنَّ هذه الهداية خاصة لمن استفاد من الهداية الأولى)، قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللّه يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إليهِ مَنْ أنَابَ﴾(الرعد:27).فعلّق الهداية على من اتصف بالإِنابة والتوجّه إلى اللّه سبحانه.
وقال سبحانه: ﴿اللّه يَجْتَبِي إلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾(الشورى:13).
وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا *وإِنَّ اللّه لَمَعَ المُحْسِنينَ﴾(العنكبوت:69). فمن أراد وجه اللّه سبحانه يمده بالهداية إلى سبله.
وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً﴾(محمد:17).
وقال سبحانه: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنا عَلَى قُلُوبِهِمْ إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِه إلهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً﴾(الكهف:13-14).
وكما أنَّه علق الهداية هنا على من جعل نفسه في مهب العِناية الخاصّة، علّق الضلالة في كثير من الآيات على صفات تشعر باستحقاقه الضلال والحرمان من الهداية الخاصة.
قال سبحانه: ﴿واللّه لا يَهْدي القَوْمَ الظَالِمِينَ﴾(الجمعة:5).
وقال سبحانه: ﴿وَيُضِلُّ اللّه الظَالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّه مَا يَشَاءُ﴾(إبراهيم:27).
وقال سبحانه: ﴿وَما يُضِلَّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ﴾(البقرة:26).
وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً *إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ...﴾(النساء:168-169).
وقال سبحانه: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزاغَ اللّه قُلُوبَهُمْ واللّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقين﴾(الصف:5).
فالمراد من الإِضلال هوعدم الهداية لأجل عدم استحقاق العِناية والتوفيق الخاص، لأنهم كانوا ظالمين وفاسقين. كافرين ومنحرفين عن الحق. وبالمراجعة الى الآيات الواردة حول الهداية والضلالة يظهر أنَّه سبحانه لم ينسب في كلامه إلى نفسه إضلالا إلاَّ ما كان مسبوقاً بظلم من العبد وفسق وكفر وتكذيب ونظائرها التي استوجبت قطع العِناية الخاصة وحِرمانه منها.
إذا عرفت ما ذكرناه، تقف على أنَّ الهداية العامة التي بها تناط مسألة الجبر والإِختيار، عامة شاملة لجميع الأفراد، ففي وسع كل إنسان أن يهتدي بهداها. وأمَّا الهداية الخاصة والعِناية الزائدة فتختص بطائفة المنيبين والمستفيدين من الهداية الأولى. فما جاء في كلام المستدل من الآيات من تعليق الهداية والضلالة على مشيئته سبحانه ناظرٌ إلى القسم الثاني لا الأول.
أما القسم الأول فلأن المشيئة الإِلهية تعلقت على عمومها بكل مكلف بل بكل إنسان، وأما الهداية فقد تعلقت مشيئته بشمولها لصنف دون صنف ولم تكن مشيئته، مشيئة جزافية، بل المِلاك في شمولها لصنف خاص هوقابليته لأن تنزل عليه تلك الهداية، لأنَّه قد استفاد من كل من الهداية التكوينية والتشريعية العامتين، فاستحق بذلك العِناية الزائدة.
كما أنَّ عدم شمولها لصنف خاص ما هو إلاَّ لأجل اتصافهم بصفات رديئة لا يستحقون معها تلك العِناية الزائدة.
ولأجل ذلك نرى أنَّه سبحانه بعدما يقول: ﴿فَيُضِلُّ اللّه مَنْ يَشاءُ وَيَهْدي مَنْ يَشاءُ﴾، يذيله بقوله:﴿وَهُوَالعَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(إبراهيم:4)، مشعراً بأنَّ الإِضلال والهداية كانا على وفاق الحكمة، فهذا استحق الإِضلال وذاك استحق الهداية.
بقي هنا سؤال، وهو أنَّ هناك جملة من الآيات تعرب عن عدم تعلق مشيئته سبحانه بهداية الكل، قال سبحانه:﴿ولوشَاءَ اللّه لَجَمَعَهُمْ عَلى الهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِين﴾(الأنعام:35).
وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ شاء اللّه ما أَشْرَكوا وَما جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾(الأنعام:107).
وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ في الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً﴾(يونس:99).
وقال سبحانه: ﴿وَعَلى اللّه قَصْدُ السَّبيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ اللّه لهداكُمْ أَجْمَعينَ﴾(النحل:9).
وقال سبحانه: ﴿وَلَوْ شِئْنا لأَتَيْنا كُلَّ نَفْس هُداها﴾(السجدة:13).
والجواب: إنَّ هذه الآيات ناظرة إلى الهداية الجبرية بحيث تسلب عن الإِنسان الإِختيار والحرية فلا يقدر على الطرف المقابل. ولما كان مثل هذه الهداية الخارجة عن الإِختيار، منافياً لحكمته سبحانه، ولا يوجب رفع منزلة الإِنسان، نفى تَعَلُّق مشيئته بها، وإنَّما يُقَدَّرُ الإِيمان الذي يستند إلى اختيار المرء، لا إلى الجبر والإِلحاد.