كيف كان الإمام عليه السلام يقضي أيّام سجنه
خُلِقَت الارض كلّها في نظرِ الامامِ لتكونَ معبداً ومسجداً ـ كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وَوُجِدَت الدُّنيالتكونَ مِحراباللعبادةِ ومجالاللتسبيح والتقديس ، ورحلةً للتقرّب إلى الله سبحانه والوصول إلى معرفته ، فلا تتغيّر عليه الاحوال ، ولا تختلفُ لديه الاماكنُ ، بل كلّما ضاقتْ عليه حلقاتُ المضيق،وعظمتِ الشّدائدُ،وتراكمتِ المحنُ ازداد قُرباً من الله،واستعانةً بالصّبرِ والصّلاة
فلقد اتّخذ الامام من السجن مسجداً،ومن وحشة الحبس ووحدته مُعْتَكَفاً ومأنساً بذكر الله وقربه سبحانه ، فنهاره صيام وليله مناجاة وقيام
فقد روى أحد الّذين كُلِّفوا بمراقبةِ الامامِ في سجنِ عيسى بن جعفر أنّه سمع الامام يقول
اللّهمّ إنّكَ تعلم أ نّني كنتُ أسالكَ أن تُفَرِّغَني لعبادَتِك ، اللّهمَّ وقَد فَعلتَ فَلَكَ الحَمْدُ
وعن أحمد بن عبد الله عن أبيه قال
دخلتُ على الفضل بن الرّبيع وهو جالسٌ على سطح ، فقال لي أشرفْ على هذا البيت ، وانظر ماذا ترى ؟ فقلت ثوباً مطروحاً . فقال : انظر حسناً ، فتأمّلت فقلت رجلٌ ساجد . فقال لي تعرفه ؟ هو موسى بن جعفر ، أتفقّدُهُ اللّيلَ والنّهارَ ، فلم أجِدْهُ في وقت من الاوقات إلاّ على هذه الحالة ، إنّه يصلِّي الفجرَ فَيُعَقِّبُ إلى أنْ تطلعَ الشمسُ ، ثمّ يسجدْ سجدةً ، فلا يزالُ ساجداً حتّى تزولَ الشمسُ ، وقد وكّل مَن يترصّدُ أوقاتَ الصّلاة ، فإذا أخبرهُ وثبَ يُصلِّي مِن غيرِ تجديدِ وضوء ، وهو دأبُهُ ، فإذا صلّى العُتمةَ أفطَرَ ، ثمّ يُجدِّدُ الوضوءَ ، ثمّ يسجِدُ فلا يزالُ يُصلِّي في جوفِ اللّيلِ حتّى يطلعَ الفجرُ
وأضيف في رواية اُخرى
فهذا دأبه منذ حُوِّلَ إلَيَّ
وجاء كذلك
فأمر بتسليم موسى إلى الفضل بن يحيى ، فجعله في بعض دوره ، وَوَضَعَ عليه الرّصد، فكانَ مشغولاً بالعبادة ، يُحيي اللّيل كلّه : صلاةً ، وقراءةً للقرآنِ ، ويصوم النّهار في أكثرِ الايّام ، ولا يصرفُ وجهَهُ عَنِ المحرابِ ، فوسّعَ عليه الفضل بن يحيى وأكرمه
وهكذا كان الامام يؤثّر في سجّانيه وجلاّديه ، فقد كان يقضي أوقاته في السجن دعاءً ومناجاةً واستغفاراً ، وركوعاً وسجوداً وتفرغا للذكر والعبادة ، وهو يعـتبر ذلك منّةً من الله ورحمة ، إذ فرّغه لعبادته ، واستخلصه لنفسه
أيّ رجل هذا ، وأيّة قوّة يمكنها أنْ تقهرَهُ ، لقد كان نورُ قلبه يُزيحُ ظُلماتِ السجون ، وصلابةُ صبرِهِ تُحطِّمُ قيودَ السجّان وإرادةَ الطّاغية ، ولذيذُ مناجاته يملا آفاقَ الوحدة والوحشة اُنساً وسُروراً ، فما عسى الجلاّدُ أنْ يصنعَ ، وماذا بوسعِ الطّاغية أن يفعل ؟ فالامام يؤثِّرُ فيمن حولَهُ ويشعُّ بسلوكه وخُلُقِهِ وروحِهِ على مَنْ يُجاورونَه
فمِن روائع تأثيرِهِ وهَدْيِهِ،وإشعاعِ سلوكِهِ وإخلاصِهِ،ما رواهُ العامري في كتاب الانوار قال
إنّ هارون الرشيد أنفذ إلى موسى بن جعفر جاريةً خصيفةً ، لها جمالٌ ووضاءةٌ لِتَخدِمَهُ في السجنِ فقال قُل له بَلْ أنتُمْ بهديّتكُمْ تَفرحون لا حاجةَ لي في هذه ولا في أمثالها ، قال فاستطارَ هارون غضباً ، وقال ارجع إليه وقُل له ليسَ برضاكَ حبسناكَ ، ولا برضاكَ أخذناك ، واتركِ الجاريةَ عندهُ وانصرِفْ قال فمضى ورجعَ ، ثمّ قامَ هارون عن مجلسِهِ وأنفذَ الخادمَ إليهِ ليستفحّصَ عن حالِها ، فرآها ساجدة لربِّهالا ترفعْ رأسَها ، تقولُ قدّوسٌ ، سبحانكَ ، سبحانكَ ، فقال هارون سَحَرَها والله موسى ابن جعفر بسحره
فلعلّ هارون أراد أن يُغريَ الامامَ ويشغلَهُ عن أهدافِهِ بجمالِ الحسان ، ومُتَعِ الحياة ، منطلقاً من فهمه وتقييمه هو لنفسه ، وما درى أنّ الامام مستغرقٌ في جمال الحقِّ وفان بحبِّ الله ، قد أعرضَ عن الدُّنيا وزينَتَها ، فلا الجواري يشغلن بالَهُ ، ولا مُتَع الحياة تستهوي نفسه ، بل هو داعيةُ حقٍّ ، وصاحبُ رسالة؛ قد نذرَ نفسه لمبادئه ، وأوقفَ ذاته على ذات الله سبحانه ، فغدا مناراً يهدي بقوله وعمله ، وداعيةً يرشدُ بِصَمْتِهِ ونُطقِهِ ، فَصمتُهُ نَطَقَ بلسانِ العمل ، ونطقُهُ هَدى بكلمة الحقّ
لذا استهوى هديُ قلبَ الجارية ، واستولى سلطانُ روحِهِ على روحها وعقلها حتّى غدت تُنادي «سبّوحٌ ، قدّوسٌ» مشدوهةً ساجدةً ، بعد أنْ كانت تَرتَعُ في مسارحِ اللّهوِ ، وتكرعُ في كؤوسِ الهَوى والغَرام ، وتقضي وقتها وهي تداعب أوتارَ الطّربِ وأنغامَ الشِّعر ، وتستمتعُ بِحُلَلِ الديباجِ وعقودِ اللّؤلؤ، فصار ديدنُها الصّلاةَ والتسبيحَ والتقديسَ حتّى ماتت ، وقيل إنّ موتها كان قبلَ شهادة الامام موسى بن جعفر عليهما السلام بأيّام
وهكذا اختطَّ الامام لاجيال المسلمين السيرة الفذّة ، والسير في طريق ذات الشوكة، رغم الصعاب والمحن، فعلّم السائرين في هذا الطّريق الصّبرَ على مرارة السّجون والثّبات على الحقِّ ، والاسـتهانةَ بأساليبِ الجلاّدين ، ووسائلِ القهرِ والارهابِ ، فقد كان الرشيدُ ينقلُ الامامَ مِن سجن إلى سجن ، فمن عيسى ابن جعفر ، إلى الفضل بن الربيع ، إلى الفضل بن يحيى ، إلى السندي بن شاهك لعلّه يُخفي شخصَ الامام ، ويقتلُ روحَ المقاومة ويُغيِّبُهُ عن الاذهان ، إلاّ أنّ وجود الامام موسى بن جعفر في السجن كان له مغزىً سياسي ، وقيمة جهادية كبرى ، وخصوصا لتنقّله بين السّجون ومتابعة أبناء الاُمّة لاخباره ، وعجز السلطة عن حسم الموقف معه
فقد كان وجودُهُ يغذِّي روحَ الثورة والرّفض والمقاومة ، ويُضفي عليها صفةَ الشرعيّة ، لذلكَ فقد رفضَ الامام التوسّط لدى الحكّام لاخراجه من السجن ، أو اللّجوء إلى أي موقف من شأنه أنْ يُضعِفَ في الاُمّة هذه الرّوح ، فقد رفضَ وقالَ لبعضِ مَن طلبَ منه أن يُرسِلَ بعض الشّخصيات إلى هارون الرشيد للوساطة وإطلاق حرِّيّته
حدّثني أبي عن آبائه ، أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى داودُ يا داود ! إنّه ما اعتصمَ عبدَ مِن عبادي بأحَد مِن خَلقي دوني ، وعرفتُ ذلكَ منهُ إلاّ قطعتُ عنهُ أسبابَ السّماء ، وأسَخْتُ الارضَ مِن تحته بهذا الردّ الحاسم الصادق عزّز موقِفَهُ وإباءَهُ وثقتَهُ بالله سبحانه
ولمّا أحسَّ الرشيد أنّ روح المقاومة الصامتة الّتي أبداها الامام في السجن قد بدأت تأخذ طريقها إلى النفوس ، وأنّ مواقفه بدأت تتفاعل مع وعي الجمهور وإحساس الاُمّة ، خاف أن يتكثّف هذا الوعي ، وينمو ذلك الاحساس فيتحوّل إلى ثورة ، فاستشار وزيرَهُ يحيى بن خالد ، فأشار عليه باطلاق سراح الامام
وقد نقل العلاّمة المجلسي صاحب بحار الانوار هذا الموقف من السلطة العباسية كالآتي
لمّا حَبَسَ هارونُ الرشـيد أبا إبراهيم موسى بن جعفر ، وأظهر الدلائل والمعجزات وهو في الحبس ، تحيّر الرشيد ، فدعا يحيى بن خالد البرمكي ، فقال له يا أبا عليّ ! أما ترى ما نحنُ فيه من هذه العجائب ؟
ألا تدبِّر في أمرِ هذا الرّجل تدبيراً تُريحنا مِن غمِّهِ ؟ فقالَ يحيى بن خالد الّذي أراهُ لكَ يا أمير المؤمنين أنْ تمتَنَّ عليه ، وتَصِلَ رَحِمَهُ ، فقد والله أفسدَ علينا قلوبَ شيعتنا ، وكان يحيى يتولاّه وهارون لا يعلم ذلك ، فقالَ هارون انطلِق إليه ، وأطلِقْ عنهُ الحديدَ ، وأبلِغْهُ عنِّي السّلامَ وقُل له يقولُ لكَ ابن عمّك أنّه قد سبقَ منِّي فيكَ يمينٌ أنِّي لا اُخَلِيك حتّى تقرَّ لي بالاساءة ، وتسألَني العفوَ عمّا سَلَفَ مِنكَ ، وليسَ عليكَ في إقرارِكَ عارٌ ، ولا في مسألتك إيّايَ مَنْقَصَةٌ
ولمّا وصل يحيى إلى الامام موسى بن جعفر وأخبرَهُ برسالة الرشيد ، رفضَ الامام أن يلبّي طلب الرشيد الّذي أراد أن يوقف الامام موقف المخاطب المعتذر ، وأجابه
وستعلمُ غداً إذا جاثَيْتُكَ بينَ يدي الله مَنِ الظّالِم والمُعتدي على صاحبِهِ والسّلام
وهكذا حطّمَ الامام موسى الكاظم عليه السلام بصبره وثقته بالله سبحانه كلَّ وسائل الجور والارهاب من السجن والضغط والقيود والتزييف وتضليل الرأي العام ، فلم يكن أمامَ الرشيد إلاّ الحلُّ الاخير وهو اغتيال الامام ، وإنهاء حياته الشريفة ، وقد تخيّل أنّه سيسدلُ الستارَ بذلك على أروعِ فصل من فصولِ الجهـادِ والثـورةِ ضدّ الطّغيان ، وسيُطفئُ نورَ الامامةِ في أهل هذا البيت ، ويتخلّصُ من أعظمِ شخصيّة علمية وقيادية في عصره ، لذلك أقدمَ على الجريمة الكبرى ، وقرّرَ اغتيال الامام
نسألكم الدعاء